تعتبر أجهزة بلايستيشن، وعلى رأسها الإصدار الأخير PS5، من أهم إنجازات شركة سوني وأكثرها رواجًا وشهرة في عالم الترفيه التفاعلي. منذ أن أطلقت الشركة الجيل الأول في التسعينيات، باتت هذه الأجهزة بمثابة علامة فارقة في صناعة ألعاب الفيديو، فهي تجمع بين أحدث التقنيات والتصميم العصري الراقي وتجربة المستخدم المتميزة. لكن القليلين فقط يعرفون مدى الدقة والتعقيد الذي تتطلبه صناعة كل جهاز من هذه الأجهزة. فمن مجرد فكرة أولية إلى المنتج النهائي الذي يصل إلى أيدي المستهلكين، يمر جهاز بلايستيشن بسلسلة طويلة من العمليات المعقدة داخل مصانع مجهزة بأحدث المعدات والتقنيات المبتكرة.

في قلب مصنع فائق التطور، حيث تتضافر التكنولوجيا المتطورة مع الدقة المتناهية، تنطلق قصة جهاز بلايستيشن قبل أن يرى النور. هنا، لا يوجد مجال للارتجال أو الصدفة، فكل خطوة مدروسة بعناية، وكل مكون في مكانه الصحيح تمامًا. في هذا المقال، سأروي لكم حكاية تصنيع جهاز PS5.

ias

المرحلة الأولى: التصميم والتخطيط المبتكر

تبدأ رحلة إنتاج البلايستيشن في مراكز البحث والتطوير التابعة لشركة سوني، وتحديدًا في مقرها الرئيسي في اليابان. في هذه المرحلة الحاسمة، يعمل فريق متكامل يضم مهندسين متخصصين، ومصممي برمجيات مبدعين، وخبراء في تجربة المستخدم على تطوير نموذج أولي للجهاز. يشمل هذا العمل تصميم الهيكل الخارجي للجهاز بأدق التفاصيل، وتحديد نوعية المكونات الداخلية الرئيسية مثل المعالج المركزي ووحدة معالجة الرسوميات المتطورة، ووضع مخطط أولي لنظام التشغيل. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم تقنيات المحاكاة الحاسوبية المتقدمة لاختبار ديناميكية تدفق الهواء وتوزيع الحرارة بكفاءة داخل الجهاز لضمان أفضل أداء.

كل شيء ينطلق من المختبرات الإبداعية لشركة سوني. يجتمع المصممون والمهندسون لتحويل فكرة مجردة إلى تصميم ثلاثي الأبعاد حيوي. يتم فحص كل زاوية من زوايا الجهاز بدقة متناهية: كيف سيمسك اللاعب بالجهاز؟ كيف سيبدو شكله على الرف؟ وكيف يتنفس داخليًا بكفاءة دون أن يسخن؟ إنها اللحظة الأولى لتجسيد حلم ملايين اللاعبين حول العالم.

  • من الفكرة الملهمة إلى التصميم المتقن

تبدأ القصة في مكاتب سوني، حيث يتم تجميع الأفكار من فرق التسويق والهندسة والتصميم المتنوعة. يتم تحليل سلوك المستخدمين ومتطلبات اللاعبين بعناية فائقة، ثم ينتقل الأمر إلى مرحلة تصميم الشكل الخارجي وتجربة المستخدم. يتم رسم النماذج الأولية باستخدام أدوات تصميم ثلاثية الأبعاد متطورة، مع إجراء تعديلات مستمرة بناءً على نتائج التجارب الأولية وملاحظات فرق العمل المختلفة.

  • مرحلة النماذج الأولية المتعددة

يتم تصنيع العديد من النماذج الأولية التي تُستخدم لاختبار الجوانب الحرارية ومقاومة الصدمات والتحمل في ظل ظروف الاستخدام القاسية. تخضع هذه النماذج لاختبارات صارمة في مختبرات بيئية متخصصة تحاكي درجات الحرارة والرطوبة والضغط المختلفة، وذلك بهدف الوصول إلى أعلى معايير الجودة والمتانة.

المرحلة الثانية: تأمين المواد والمكونات عالية الجودة

بمجرد الموافقة النهائية على التصميم، تبدأ المرحلة الثانية وهي تأمين المكونات الإلكترونية والمادية الضرورية لتصنيع الجهاز. تتعاون سوني مع موردين من جميع أنحاء العالم للحصول على معالجات متطورة، وشرائح ذاكرة RAM فائقة السرعة، وأقراص تخزين من نوع SSD بتقنية NVMe، ووحدات تبريد عالية الكفاءة لضمان الأداء الأمثل. يتم اختيار الموردين بعناية بناءً على معايير صارمة للجودة والموثوقية والقدرة على التوريد بكميات كبيرة، مما يضمن استمرارية الإنتاج دون أي تأخير.

تعتمد سوني على شبكة واسعة من الموردين العالميين الموثوقين، وعلى رأسهم شركة AMD لتوفير وحدات المعالجة المركزية (CPU) ووحدات معالجة الرسوميات (GPU) المصممة خصيصًا للألعاب عالية الجودة. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد على شركة TSMC لتصنيع الشرائح الدقيقة بتقنية 7 نانومتر المتطورة، وشركتي كيوكسيا ومايكرون لتوريد وحدات التخزين والذاكرة عالية الأداء.

إذاً، تأتي المكونات من كل أنحاء العالم. الشرائح الإلكترونية الدقيقة تُصنع في تايوان، وذاكرة الوصول العشوائي في كوريا الجنوبية، وبعض القطع المعدنية في دول أوروبية متخصصة. تُجمّع هذه الكنوز التقنية في مصانع ضخمة، حيث تنتظر دورها لتتحول إلى عقل نابض بالحياة: البلايستيشن. ثم يتم شحن هذه المكونات إلى اليابان، وتحديدًا إلى مصنع كيسارازو المتخصص، بعد فحصها بدقة وفقًا لمعايير صارمة ومواصفات دقيقة.

المرحلة الثالثة: التصنيع الدقيق والتجميع المتكامل

في هذه المرحلة، تدخل الألواح الإلكترونية الخضراء - وهي أشبه بخريطة لعالم رقمي مصغر - إلى خط الإنتاج. أذرع روبوتية متطورة تتحرك بسلاسة فائقة، وكأنها راقصات باليه على أنغام المنطق، تضع الرقائق الدقيقة على اللوحات. هذه الشرائح ليست مجرد قطع معدنية، بل هي قلب الجهاز النابض، والمكان الذي يكمن فيه الذكاء الحقيقي.

وتبدأ مرحلة التجميع، حيث تتضافر التكنولوجيا المتقدمة مع الهندسة الميكانيكية الدقيقة. أذرع ضخمة ومجسات دقيقة تعمل بتناغم مذهل، تثبت المعالجات في مكانها، وتضغط على البراغي بدقة محسوبة ومضبوطة، وتضع وحدات التبريد المخصصة في مكانها الصحيح. كل جزء يُضاف يخضع للفحص الفوري، حيث لا تلتقط الكاميرات صورًا فحسب، بل تُحلل وتُقارن بالمعايير القياسية في جزء من الثانية.

إذاً، تنتقل المواد الأولية إلى مصانع التجميع المتخصصة، والواقعة في دول مثل الصين واليابان. هناك تبدأ المرحلة الثالثة، حيث يتم تصنيع وتجميع المكونات المختلفة في خطوط إنتاج شبه آلية. يتم تركيب اللوحة الأم (Motherboard)، وتثبيت وحدة المعالجة المركزية (CPU)، وبطاقة الرسومات المتطورة، ودمج وحدات التخزين عالية السرعة. كما تُركب منافذ الإدخال والإخراج المتنوعة، ومكونات الاتصال اللاسلكي مثل Wi-Fi وBluetooth. تُستخدم آلات دقيقة للتحكم في لحام الشرائح الإلكترونية لضمان ثباتها وعمرها الطويل.

  • مصنع كيسارازو: القلب النابض لعملية الإنتاج

داخل هذا المصنع المتطور، يتم توظيف 32 روبوتًا صناعيًا عالي الدقة، قادرًا على تجميع 30 جهازًا في أقل من ساعة واحدة. هذه الروبوتات تعمل في خدمة الدقة المتناهية داخل المصنع، مما يخلق مشهدًا يبدو وكأنه مقتطف من المستقبل. أذرع روبوتية تتحرك بسرعة فائقة، تثبّت المعالجات والدوائر فوق لوحات إلكترونية بحجم راحة اليد. لا يوجد مجال للخطأ، فكل مكون يُركّب بدقة ميكرونية. إنها رقصة متناغمة بين الإنسان والآلة.

كل روبوت في هذه المرحلة مجهز بكاميرات ومستشعرات ليزرية متطورة تراقب كل خطوة من خطوات التجميع. تتكامل هذه الروبوتات مع العمال المهرة الذين يراقبون كل مرحلة من مراحل الإنتاج، ويتدخلون يدويًا عند الضرورة في بعض عمليات الفحص الدقيق لضمان أعلى مستويات الجودة.

الذكاء الاصطناعي لا يغيب عن هذا المشهد، بل هو الحَكم الصامت الذي يقف خلف كل حركة. يرصد الانحرافات الطفيفة، ويصدر الإنذارات الفورية، ويقترح التعديلات اللازمة. أما البشر، فهم في الخلفية، يراقبون عن كثب، ويتدخلون عند الحاجة، ويضيفون لمسة من الحدس البشري لا تستطيع الآلة الوصول إليها بعد.

من ثم ننتقل إلى مرحلة التجميع الدقيق. تبدأ هذه المرحلة الحاسمة بتثبيت اللوحة الأم في مكانها المخصص، تليها عملية توصيل المعالج والذاكرة والمكونات الداخلية الأخرى بعناية. بعد ذلك، يتم تركيب وحدة التبريد المتطورة المصممة خصيصًا لهذا الجيل من الأجهزة.

الغلاف الخارجي للجهاز لا يُعنى فقط بالشكل الجمالي، بل بالوظيفة الهامة أيضًا: توفير تهوية مثالية، تصميم انسيابي فريد، وشكل مستقبلي جذاب. بعد ذلك، يتم إغلاق العلبة البلاستيكية التي تم تصميمها خصيصًا لتقليل الضوضاء وتحسين التهوية. لذلك، يتم استخدام بلاستيك خاص معزز بسبائك معدنية لتحسين الأداء الحراري للجهاز.

سأكتفي بهذا القدر وسنتابع شرح باقي المراحل في الجزء الثاني….